الخميس , 21 نوفمبر 2024

درس من السنغال /عبدالله محمدي

درس من السنغال
عبد الله ولد محمدي
عمدة بلدة ريفية، وبائعات بسطة خضار في ضواحي شعبية بالعاصمة السنغالية داكار، وفيلسوف متخصص في فلسفة كانط. هذه نماذج من عيّنات رافقت الرئيس السنغالي ماكي صال في رحلاته المختلفة، التي قادته خلال الأسابيع الأخيرة إلى عدد من الدول.
الفكرة التي يشرحها الرجل بكل بساطة، هي أن الطائرة الرئاسية وسيلة عمل تحصل على مصاريفها من جيب دافع الضرائب السنغالي، فلم لا يتم إشراك نماذج من بعض فئات الشعب في التمتع بما يدفعه؟ مكّنت رحلتان رئاسيتان، بائعات البسط في الحي الشعبي اللواتي سافرن عبر الطائرة الرئاسية لأول مرة، من الاطلاع على نماذج من بضائع في أسواق آسيوية غيّرت مجرى حياتهن للأبد، عندما جلبن بضاعة جديدة عبر الطائرة الرئاسية، وكسبن خبرة وانفتاحاً في تجربتهن الفريدة.
أما عمدة البلدة الريفية التي تقع على الحدود السنغالية – الموريتانية، فقد أعجبته مدينة أبوظبي، واطّلع على نماذج من طريقة تدبير المدن الحديثة في أرقى صورها، وعاد إلى بلديته التي تقطنها أغلبية من المزارعين، وهو يحمل معه أفكاراً جديدة لتحسين حياتهم.
أما الفيلسوف الذي تربى في حضن عائلة الرئيس سنغور، فأكمل كتابه الجديد عن حوار الحضارات بعد أن حضر ندوة فكرية حول التسامح الديني، نظّمها منتدى السلم في فندق مطل على شاطئ البحر. ذلك البحر الواقع في قلب العاصفة التي تجتاح العالم اليوم على شكل حروب اقتصادية وسياسية من أجل الهيمنة والنفوذ، لكن هذه العاصفة تخفي صراعاً بين حضارات تعطلت فيما بينها لغة الحوار. هكذا كان الفيلسوف القادم على متن الطائرة الرئاسية يُفكر، وهو يضع اللمسات الأخيرة على كتابه.
لا يؤمن ماكي صال بالشعبوية في ممارسة السياسة أو الحكم، ورفض طيلة 8 سنوات من الحكم أن يسلك طريق سلفه عبد الله واد في سلوكه القذائفي (نسبة للقذافي). فماكي صال على النقيض من سلفه يميل إلى الهدوء والتريث وتقليب الأمور رأساً على عقب، قبل أن يتّخذ القرار الذي يراه صائباً، وهو الأمر الذي جنب بلاده الدخول في صراعات مجانية.
وقد استطاع ماكي صال أن يختط لنفسه نموذجاً فريداً من تدبير الحكم في تاريخ السنغال، رغم احترامه الكبير وتقديره الجمّ للرؤساء الثلاثة الذين سبقوه، احترام يظهر دوماً في أحاديثه وخطبه. فهو يستند في قراراته على تراث وتقاليد السنغال في الحكم، مع إضافة لمسته الشبابية الخاصة والمتطلعة نحو المستقبل. فهو يرى في القادة الشباب لدول الخليج نموذجاً صائباً في القيادة؛ حيث توضع مصلحة الشعوب فوق كل الاعتبار.
ماكي صال الذي يرأس المبادرة العالمية لتنمية أفريقيا منذ 8 سنوات، يسعى إلى خلق تغيير كبير في القارة عبر إقامة شراكات متنوّعة تستفيد من التجارب المتعددة، والبدء من حيث انتهى الآخرون. إنه أحد القادة الجدد في أفريقيا الذين ينادون بتجاوز عهد المساعدات نحو عصر الشراكة بين طرفين رابحين.
يرفض ماكي صال بشدة مقولة إن «أفريقيا هي المستقبل»، ويؤكد دوماً أنها أصبحت هي «الحاضر»، إذ إن العالم أجمع أصبح حاضراً في هذه القارة المليئة بالموارد والمشروعات، قارة ما تزال قيد البناء والتشييد، وتحقق أعلى نسب النمو في العالم، قارة رغم أوجاع الحروب في بعض مناطقها فإنها تشهد نهضة اقتصادية هامة في كثير من مناطقها الأخرى.
يدافع ماكي صال عن أحلامه بتحقيق النهضة الأفريقية الشاملة، لكنه يؤمن بأن تحقيق هذه الأحلام لن يكون سهلاً، إذ لا بد أولاً من تعزيز سياسة الحكم الرشيد في تسيير شؤون دول القارة، وهو الذي سبق أن قال في خطاب موجه للسنغاليين: «سأتابع دون كلل سياسة الحكم الرشيد»، رافضاً الضغط السياسي عليه بعد قراراته التي تحارب الفساد وسوء التسيير.
يعتقد ماكي صال أن الإدارة الجيدة والمُحكمة للشأن العام في أفريقيا، من شأنها أن تتيح تسييراً أفضل للموارد وتمويلاً أكبر للنهضة المرتقبة، لكن الأهم هو أن الدول الأفريقية ستكون شريكاً جاداً على الصعيد الدولي، شريكاً يمثّل الشعوب بصدق ويُعبّر بإخلاص عن أحلام الشباب الذي يشكّل النسبة الكبرى من سكان القارة.
بالإضافة إلى الحكم الرشيد وإقامة الشراكات الجادة، يحضر في ذهن ماكي صال ما تعاني منه القارة من أزمات أمنية، لكنه يعتقد أن القارة قادرة على أن تقدم حلولاً محلية لمشكلاتها الأمنية، بل إنه يرى أنه من أجل الوصول إلى النهضة الأفريقية لا بد من إيجاد حلول أفريقية لمشكلات القارة، إنها ضرورة لا بد من تلبيتها.
وهو يعتقد جازماً أن أي حلول غير أفريقية لمشكلات أفريقيا ستفتح الباب أمام التدخل الخارجي. غير أن رفض التدخل لا يعني بتاتاً الامتناع عن الشراكات، فأفريقيا تبحث عن شركاء جادين في مجالات التنمية والأمن والسياسة، لكنها ترفض وجود لاعبين على أرضها يرفضون مبدأ الشراكة التي تضمن الربح لطرفيها.
إن دول الخليج، وخاصة السعودية والإمارات، توصف من طرف ماكي صال بأنها شريك استراتيجي لبلاده وشريك حقيقي قادر على المساهمة بنسبة كبيرة في نهضة أفريقيا، وهو الذي ينظر بقدر كبير من الإعجاب للأفكار التي يعبر عنها قادتها الشباب، وهي أفكار تتقاطع مع نفس الرؤية التي يحملها الرجل القادم من بلاد «السالوم»، عمق السنغال ومهد الحضارة في تلك البلاد. يؤمن ماكي صال أن التبصر في تجارب الدول والأنظمة الأخرى التي قطع بها قادتها أشواطاً في التنمية والازدهار، سيوفر على القارة الأفريقية كثيراً من الوقت والجهد الضروريين لكسب معركة التنمية والتقدم.
ولذلك، سعى ألا تكون الطائرة الرئاسية مجرد وسيلة لسفر الرئيس، بل أن تكون فوق ذلك – كما الحمام الزاجل – وسيلة لنقل تجارب التنمية بين الشعوب، وتبادل الأفكار بين الثقافات.
جريدة الشرق الأوسط

– عبدالله محمدي /كاتب متخصص في الشؤون الأفريقية

شاهد أيضاً

قراءة في نتائج النيابيات السنغالية / محمدن ولد عبدالله

قراءة في نتائج النيابيات السنغالية في انتظار إعلان مصادقة المجلس الدستوري هذا الأسبوع على نتائج …