“اندر” في سيرة حياة العلاّمة الدكتور محمد المختار ولد أباه رحمه الله
حاولت من خلال هذا المقال في العدد الجديد من #مجلة_الثقافة عرضَ أهمّ ما ورد في سيرة حياة الدكتور بابَ عن سينلوي :
حين صدر كتاب “سيرة حياة” للدكتور محمد المختار رحمه الله تطلّعتُ بشوق كبير إلى قراءته لعدة أسباب منها
- شغفي بقراءة السير الذاتية للزعماء والأعيان
- وكون هذا الكتاب من تأليف قامة فكرية وثقافية سامقة من جهابذة العلم والمعرفة على الصعيدين الوطني والدولي ،
- وشدّني أكثر يقيني باحتوائه على معلومات متميزة وتفاصيل مهمة عن مدينة اندر والتي تدخل ضمن دائرة اهتمامي وأبحاثي لما تمثله للذاكرة الموريتانية ثقافيا واجتماعيا وسياسيا ولأنّ المؤلف أيضا شاهد على عصر ازدهار اندر وارتباطه الثقافي والجغرافي والتاريخي بموريتانيا
أهداني العميد السالك ولد أباه ابن أخ المؤلف مشكورا نسخة من الكتاب وبدأتُ في تصفحه ،
لم يخب ظني فقد خصّص الدكتور محمد المختار عدّة صفحات تعرّض فيها لرحلاته إلى اندر وقدّم تعريفا بالمدينة ووصفها بالموريتانية في إشارة إلى اندر لبيظ يقول الدكتور :
“سنتان في سانلوي (اندر)
عندما أبلغت بانتدابي إلى الإدارة المركزية في سانلوي، عاصمة السنغال وموريتانيا،
عدت إلى هذه المدينة العريقة، التي تمثل أنموذجا فريدا من التعامل مع الاستعمار
الفرنسي حتى أن بعض سكانها يقولون إنها كانت جزءا من فرنسا الحالية قبل منطقة “صافوا (Savoie)”. وفيها نوع من الانسجام العجيب بين سكانها المعروفين بأبناء “اندر”، وهو الاسم المحلي لهذه المدينة.
وتحمل سانلوي اسم أحد الملوك الفرنسيين، هو لويس التاسع، وقد مات هذا الملك في الحروب الصليبية في تونس…”
ويقف العلاّمة محمد المختار عند دار أهل ابن المقداد وأدوار الترجمان الكريم “دود سك” قائلا :
لقد قامت هذه المدينة بدور كبير في إفريقيا وأنجبت رجالات مشهورين مثل ابن المقداد، وكانت توجد فيها باخرة صغيرة تحمل اسمه تقوم بنقل المسافرين والبضائع على نهر السنغال.
ومن أشهر أبنائها ابنه الترجمان الأديب والشاعر محمدن الذي تربى في موريتانيا
وأتقن العربية والحسانية، فكان يجيد الشعر بهما.
وقد امتدحه سيديا ابن هدار بأشعار شعبية مشهورة منها قوله:
ولْ ابنُ معلومْ عهدُ ::والدينْ ابذلْ فيهْ جهدُ
راعِ كلْ اكتابْ عندُ :: فوكْ أوخرْ مطروحْ
بينْ الِّ منصوصْ وحدُ :: ؤبينْ الِّ مشـــروحْ
….
ومن أطرف ما مدح به هو
به هو أن داره كانت ملاذا للذين يريدون قضاء الليل مخافة أن تعتقلهم الشرطة في مخافرها، فقيل فيها:
هَاذِ الدارْ اللي لا اخْلاتْ :: عادتْ فيهَ لفلوحَه
بيهَ الاگْدامْ ءُ لا اتْباتْ :: ليلَه ما هِي مفتوحَه
وقد استغل الفرنسيون مواهبه وصلاته في بسط نفوذهم على موريتانيا.
وكانت مدينة سانلوي مستودعا للكثير من التاريخ، منه ما يتعلق بالمجتمع الذي
أنتمي إليه، ومنه تاريخ الإمارة التي تربطنا بها علاقات شتى، ومنه ما يتصل بوجود
المستعمر ورجالاته ومؤسساته، وعلى رأسها “مكتب الأرشيف” التابع للمركز الفرنسي
لإفريقيا السوداء (IFAN).”
وفي فقرة خاصة بعنوان النوادي الأندرية يعدّدُ بعض أماكن التلاقي المهمة عند البيظان في اندر فيقول :
“كانت معاقل تجمعات الموريتانيين في مدينة “اندر” تتوزع بين أربعة مراكز، منها
بيت محمد الكريم بن باني الواقع في أقصى جنوب قرية سندونه، فكان هذا البيت مأوى الوفود ومجمع الظرفاء، يتمتعون فيه بكرم الضيافة.
أما المركز الثاني فهو في نفس الحي من اندر، لكنه كان أقرب إلى وسط المدينة،
وهو دكان أبناء سيدي يعرف، وجمهوره من أبناء عمومتهم من أمراء بني أحمد من دمان، ومن يدورون في فلكهم من أهل إيكيدي.
ومن رواد هذين المركزين بعض الشخصيات البارزة مثل الأديب المبدع والشاعرالمجيد المختار بن هدار، الذي تجمعت فيه شخصية عبقرية عائلته الشهيرة، شرفاء النفس والنسب، بالبراعة في الشعر الحساني، ولقد حقق المختار الوراثة من جده محمد
بن هدار صاحب الروائع البديعة، في رثاء امحمد بن الطلب، وفي وصيته لابنه امحمد،
ومقطعاته الغزلية الرقيقة، كما ورث كذلك براعة أعمامه سيدي الذي كان لابن المقداد مثل زهير بن أبي سلمى لهرم بن سنان، وعمه امحمد صناجة الأدب الحساني “
ويفرد الدكتور فقرة خاصة في ذكر علاقتة القوية بفتى الفتيان المرحوم ادّو ولد محمدباب دفين اندر رحمه الله تعالى وكيف فتحت له صلاته به بتوطيد علاقات روحية واجتماعية مع أسرة الفضل والصلاح أهل العاقل، يقول الدكتور :
“كان لقائي مع السيد أحمدو بن أحمد يوره المعروف بـ”أدو” في مدينة اندر في أوّل سفرٍ قمت به إلى السنغال سنة 1942، التقيت به في دكانٍ صغير، ولعله الوحيد آنذاك في هذه المدينة التي كانت تعيش تحت وطأة الحرب العالمية الثانية، لم يكن بيننا تعارف من قبل، ولكننا حينما التقينا كنا كأننا لم نفترق من قبل، بهرني “أدو” بحسن أخلاقه وبابتسامته
التي تبث البِشرَ والارتياح في من لقيه.
لم أك آنذاك أعرف أنه يجمعه معي جد والدتي بزيد بن محمذن الفاضلي، أو
يجمعني معه جده أحمد بن العاقل الذي أنتسب إليه من جهة الأم؛ فقد كانت صلاتنا يصدق عليها ما قيل عن الأرواح إنها جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف .
ثم استمرت الصداقة الوطيدة بيننا مدة سنوات أغلبها في مدينة اندر، حيث إننا كلما التقينا نتبادل طرائف الأدب والتاريخ إلى أن بلغني وأنا في مدينة النعمة نبأ وفاته غرقا في تشییع جنازة أحد تلامذة والده.
وأذكر أنني قلت فيه قطعة من الرثاء لم أعد أذكر منها إلا قولي في تشبيهه بالشمس:
وشــــــــمس في تغيـــــاعـــــــرفنا بـأن الـشمس تغـرب في البحار
لقد فتحت لي صلاتي بالمرحوم “أدو” توطيد علاقات روحية واجتماعية مع عائلة أحمد بن العاقل،.”
وفي معرض ذكره للنوادي الأندرية أشاد بصديقه الملك همام واستفاض في حكاياته الطريفة والشيقة معه في سانلوي وفي أماكن أخرى :
“وقد كان من أبرز أعضاء النوادي الإندرية الملك همام، الذي يقول “إذا متُ فلن
تجدوا هماما بعدي”، وهو فعلا فريد عصره؛ فهو فريد في اسمه ووسمه.
فلا نعرف أحدا يحمل اسم همام في هذه البلاد غيره، “
كما أفرد فقرة خاصة بالأديب الكبير المختار ولد الميداح فيقول :
“مختار آخر كان من رواد المنتدى الإندري، إنه الفنان الكبير المختار بن محمد بن اعلي بن أعمر بن مانو، كان جده يلقب بـ”الميداح”، واشتهر بهذا اللقب وصفة المدح مما عرفت به المجموعة التي ينتسب إليها المختار ولد الميداح، وهي مجموعة “الشعار”؛ والشعار في اللغة الحسانية جمع شاعر.
ولهذه المجموعة ميزات ثلاث، منها أن يبرز من بينهم نوابغ المطربين،المتخصصين في العزف والغناء.
ومنها أنهم برعوا في الشعر الحساني، وأنشأوا منه فنّا خاصا بهم في المنطقة اسمه “اتـهـيـدين”، وهو عبارة عن ملاحم في تمجيد الأمراء ومشاهير أبطال معارك
الحرب، وقد أسهم هذا الفن في تخليد أمجاد بعض القبائل، مثل ما كان لـ”اعلي”جد المختار بن الميداح في أمراء بني أحمد بن دمان، وما كان تميز به الشاعر سدوم ولدأنجرتو في أولاد امبارك، ثم بعدهم في أمراء إيدوعيش.
والميزة الثالثة أن جل أغانيهم كانت في مدح النبي ﷺ، فقد اشتهرت أغاني أحمدو بن الميداح وأسرته بلحنه المشهور “آه آن نبغ النبي”، وكانت فرقة ابنه محمد هي من قامت بتلحين القطع الملحونة التي قلتها في مدح النبي
ﷺ
لقد اجتمعت هذه الميزات الثلاث في شخص المختار بن الميداح، فقد كان أستاذا في فن العزف وصار عوده مضرب الأمثال في تتبع غنائه العذب”
أخيرا لا يخفي الدكتور أسفه على ما آلت إليه مدينة اندر من ضياع بعد عودته إليها في التسعينات :
“وقد مررتُ بها بداية سنة 1993، فرأيت أن معالمها التاريخية كلها انقلبت رأسا على عقب، فلم يعد هنالك القطار الذي وصفه المختار بن حامد في قصيدته المشهورة، ولم يعد هنالك أيضا ذلك المجتمع المختلط..”
ويطيب لي هنا في الختام نشر طلعة محمد المختار الرائعة الجميلة والتي تتميز بصدق العاطفة وحسن وصف دهر اندر الذهبي :
دهرْ اندرْ اعرفتُو عِمانْ :: عامرْ من لَحباب وُ لَقرانْ
وُجْمايْع تنزاه البيظانْ :: بيناتْ أيّامو وُ لْياليهْ
أُجِلتْ أُراهْ افعدّة بلدانْ :: وعرفت ادْهور اخرَ خاطيهْ
وأحبابْ اخرَ يغير امْبَانْ :: امع هذا ماني ناسيهْ
ألا گطْ أُراهْ اعرفتْ ازمان :: كيفت ذاك الّ نعرف فيهْ
تغمد الله الدكتور العلامة محمد المختار ولد اباه بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته وجزاه خيرا عن الإسلام والمسلمين .
محمدن ولد عبدالله
باحث وكاتب صحفي
المدير الناشر لشبكة رياح الجنوب